اليوم يدخل السودان عامه التاسع والخمسون منذ أن خرج الإنجليز من السودان، خرجوا طوعاً وتركوا لنا دولة بحدود جغرافية معلومة ونظام مدنى وإدارى منضبط، يتكئ على هيكل إقتصادى قوى، قوامه خزانات، ومصانع ومشاريع زراعية عملاقة، وشبكة سكك حديدية ضخمة تعمل بكفاءة عالية، وموانئ مجهزة لأداء دورها الإقتصادى كما ينبغى، كما تركوا نظاماً صحياً وأساساً تعليمياً وأكاديمياً صارماً وهيكلاً متيناً لبنية تحتية شبه شاملة ما كان للسودانيين أن يجدوها من دراويش الثورة المهدية آنذاك، حيث أنها كانت تفوق تصورهم المتواضع وقتئذٍ .
عندما رجعت قليلاً لتاريخ السودان، وجدت أن الانجليز الذين أحكموا قبضتهم على السودان كل هذه السنين وتركوا لنا كل هذا الإرث الحضارى الذى نعيش بقاياه حتى الآن، ليسوا ملايين ولا ألوفاً كما يتصور البعض لأول وهلة، بل كانوا بضع عشرات من الضباط البريطانيين والاداريين الذين انتدبتهم الخارجية البريطانية لإدارة مستعمراتها، بمعاونة بعضاً من صغار الموظفين المصريين، كان هؤلاء الضباط البريطانيين يعملون تحت قيادة شخص واحد، إليه يرجع الفضل فى تأسيس السودان الحديث الذى نعبث برفاته اليوم، والذى سلمه البريطانيون لأول حكومة سودانية، كان ذلك القائد الفرد هو الحاكم العام للسودان اللورد هيربرت كتشنر . الرجل الذى صنع الخطوط العامة لإدارة السودان، وكان يكفيه فقط أنه بدأ التفكير فى إنشاء كلية غردون التذكارية بعد شهرين فقط من معركة كررى، بعد أن دعا وتوسل لمجلس العموم البريطانى للتبرع له بمبلغ مائة الف جنيه استرلينى لبناء ذلك الصرح الشامخ تخليداً لذكرى غردون، فاستجاب له البريطانيون ودعموه بأكثر مما أراد خلال ستة أسابيع فقط .
كتشنر الذى شيد الجزء الأكبر من القصر الجمهورى الحالى وكل المبانى الحكومية العتيقة على شارع النيل بالإضافة لبيوت الموظفين وثكنات الجيش والبركس ومصلحة البريد والبرق والتلغراف الذى كان يغطى الآف الكيلومترات، بنى مدينة الخرطوم وعكف على تجميلها ورصف شوارعها وأحاطها بعشرات الآلاف من الأشجار، كما بنى المسجد الكبير وبنك باركليز وبنك مصر،
وواصل كتشنر العمل على بناء كلية غردون حتى اكتملت فى عام ١٩٠٥ وهو نفس العام الذى شهد افتتاح خط الترام البخارى، كما صنع قبله خطوط السكك الحديدية التى ربطت شمال السودان بجنوبه ثم بنى خط السكة حديد إلى بورتسودان ليكمل بعده ميناء بورتسودان عام ١٩٠٤ وكاد أن يبدأ فعلياً فى تنفيذ ميناء شيخ برغوت ليكون ميناء السودان الرئيسى، لكن فلسفة أولوياته وتباطؤ الادارة البريطانية حال دون ذلك فأكمل الخط الحديدى غرباً حتى كردفان ليربط مدينة الابيض .
قام بتشييد كوبرى كوستى القديم والكبرى الذى يربط بين مدينتى الخرطوم والخرطوم بحرى، كما أنشأ كتشنر أكثر من ثلاثين مستشفى موزعة على عشرين مدينة سودانية من بينها دور القابلات وعشرات المدارس والمعاهد التعليمية .
فى مقال كتبه الصحفى البريطانى كولن رالستون فى المجلة البريطانية وترجمه بدرالدين الهاشمى، أن كتشنر استدعى الملازم مهندس جورج جورنجى ببرقية بالغة الاختصار والصرامة، كان نصها ( احضر فوراً للخرطوم لبدء الأعمار. لدينا ٢٠٠٠٠ جنيه. إبدأ بالقصر. و ما أن بدأ شهر يناير من عام ١٨٩٩حتى كان أكثر من عشرين الفاً من الرجال يعملون فى صنع الطوب، و بعد مرور شهر واحد رصفت كل الطرق و غرست ٧٠٠٠ شجرة فى محيط القصر ).
كان اللورد كتشنر مخلصاً أميناً صارماً كحد السيف طيلة فترة عمله فى السودان، ولكن ليس حباً فيه بقدر ما كان إخلاصاً لوطنه بريطانيا التى خرج أصلاً من أجلها.
من حقنا اليوم أن نغنى ونحتفل بذكرى الإستقلال ما شاء لنا، ولكن علينا أيضاً أن نستصحب تلك الحقائق التاريخية التى تؤكد أن قائداً واحداً يمكنه أستنهاض أمة بحالها مهما بلغ بها اليأس، وهذا مايحتاجه السودان الآن أكثر من كل أحزابه ومنظوماته السياسية المتنافرة، أعنيها تماماً، وفى ناظرى ذلك الإنحدار الذى يتردى فيه الوطن بأيادى أبنائه منذ خروج الأجانب وحتى تاريخ اليوم .
وفى غمرة حسرتى، يداهمنى ذلك السؤال الذى طالما أرقنى !! أليس فينا كتشنر واحد !! .. أليس فينا قائد أو حتى عاقل واحد ؟